نصر أكتوبر .. الطريق إلى السلام
انتصار الإرادة المصرية في حرب أكتوبر 1973 هو العنصر الأساسي الذي فتح الطريق إلى سلام ممكن بين العرب وإسرائيل . فقبل هذا الانتصار كان هناك طرف رابح وطرف خاسر .. ولم يكن ممكناً لمثل هذه المعادلة المختلة في توازن القوى أن تقيم سلاماً متوازناً ، لذلك .. كان خيار السلاح حتمياً أمام مصر والعرب .. لضبط هذه المعادلة وإعادة العدو المغتر بالقوة إلى أرض الواقع الذي يقول بأن السلام يستند إلى العدل والمنطق واحترام حقوق كل الأطراف .. وليس إلى القوة الغاشمة واحتلال أراضي الغير و إنكار حقوقه .. حول هذه القضية يأتي هذا المقال للخبير العسكري والمفكر الاستراتيجي لواء . طه المجدوب .. استناداً إلى كتابه : حرب أكتوبر .. الطريق إلى التسوية الشاملة .
خلال فترة تجاوزت قليلاً عقدين من الزمان من عمر الثورة المصرية وتاريخ مصر المعاصر ، وعلى وجه التحديد مابين عامي 1952- 1973 .. تعرضت مصر لثلاث تجارب عسكرية فريدة في شكل حروب صعبة تنوعت أبعادها واختلفت نتائجها وتداعياتها ، وذلك في أعوام 1956 ، 1967 ، 1973 ، لقد دفعت هذه التجارب المعقدة بمصر الثورة – وهي مازالت في السنة الرابعة من عمرها - داخل دروب الصدام المسلح ودهاليز الصراع الدولي ولكنها تمكنت بفدائية عالية وعزيمة لاتكل من اجتياز هذه التجارب الصعبة التي خاضتها في سبيل الحرية والاستقلال والأمن والسلام .. ومن أجل وحدة أمتها العربية وسلامتها .
ففي التجربة الأولى عام 1956 .. تعرضت مصر لمؤامرة كبرى شاركت فيها ثلاث دول منها دولتان من الدول الكبرى هما بريطانيا وفرنسا .. والثالثة إسرائيل التي استغلت الفرصة لتمسك بأذيالهما وتتواطأ معهما في شن حرب عدوانية شرسة ضد مصر ، بحجة أنها اجترأت ومارست حقها الشرعي في تأميم قناة السويس المصرية ، من أجل أن تعيد بناء نفسها وترفع سدها العالي في أسوان ، ليوفر لها النمو والرخاء . وقد انبرت هذه الدول الثلاث لتحقيق هدف محدد اتفقت عليه هو إسقاط النظام الجديد في مصر لوقف عجلة التقدم ، وحرمان شعبها من حقه في التطور والحياة .
ونجحت مصر في اجتياز تجربتها الأولى .. وفشل من دبروا لها من أعداء مصر في تحقيق هدفهم .. وبقيت مصر الثورة تتحدى قوى العدوان . وكان لابد للأعداء أن يفرضوا عليها تجربة أخرى أشد قسوة وأوسع نطاقاً . ليشمل العدوان بالإضافة إلى مصر دولتين عربيتين غيرها هما سوريا والأردن .. إذ كان الهدف هذه المرة أكثر طموحاً وأكثر حسماً .
فلم يكتف بضرب مصر .. ولكن بضرب الأمة العربية كلها ممثلة في الدول العربية الثلاث .. لكي يفرض عليها الكيان الصهيوني قيام " الدولة العبرية الكبرى " ففي عام 1967 هاجمت إسرائيل مصر ثم سوريا والأردن .. هجوماً مدبراً ومبيتاً واسع النطاق مدعومة بقوة كبرى هي الولايات المتحدة الأمريكية ، وتحت ستار حجة أخرى مشابهة للتجربة الأولى .
أما التجربة الثالثة .. فقد اختلفت كثيراً عن سابقتها .. إذ كان على مصر أن تسترد الأرض المحتلة ، بعد أن استوعبت التجربة المريرة ، وآمنت أن أرضها لن تعود وأن السلام لن يتحقق وهي في موقع الهزيمة و أن العمل العسكري وحده لم يعد قادراً – في ظل الظروف العالمية المعاصرة – على حسم أي صراع . بتحقيق النصر الكامل . و أن هناك من الوسائل المختلفة ما يمكنها أن تحقق النجاح الكامل .. فيما لو استخدمت هذه الوسائل بكفاءة مدعومة بإرادة صلبة ومعنويات عالية وإصرار على تحقيق الهدف ، وذلك في إطار ما نسميه بـ " الاستراتيجية الشاملة" التي تتعدد أدواتها ، ويطول زمن تنفيذها ، ولكن يبقى هدفها ثابتاً لا يتغير .
وقد نجحت التجربة المصرية نجاحاً كبيراً .. فانتصرت مصر وعلت كلمتها .. لأنها كلمة الحق .. و لأنها أعدت لاسترداده كل ما تملك من وسائل و أدوات .. لكي تزيل آثار الهزيمة وتتجاوزها .. ولتحقق أروع الإنجازات العسكرية في أكتوبر 1973 . في هذا الحرب المجيدة قضت مصر على أسطورة إسرائيل التي لا تقهر .. وقوضت نظرية الأمن التوسعية التي اعتنقتها .. وبترت ذراعها الطويلة التي ظلت تتباهى بها سنوات ما بعد الهزيمة .. ونسفت قلاعها المنيعة واخترقت حدودها الآمنة .. لكي تفتح الطريق نحو السلام الحقيقي .. الذي سعت إليه مصر .. وهي في قمة انتصاراتها حين وقف رئيسها الراحل أنور السادات تحت قبة مجلس الشعب يوم 16 أكتوبر 1973 يدعو إلى وقف إطلاق النار وعقد مؤتمر السلام لبحث التسوية السلمية الشاملة .
الآن بعد أن تغيرت الظروف العالمية ، وتبدلت طبيعة الموازين السائدة ، و أصبح حل الصراعات والسعي من أجل السلام هو الهدف المشترك للبشرية المعاصرة ، والتعبير الأصيل عن إنسانية البشر ، لم تعد تكفي النوايا الطيبة وحدها لإقامة السلام .. بل يحتاج الأمر إلى إرادة سياسية صلبة تتمسك بالهدف وتتمتع بالإصرار .. فقد أصبح جوهر الصراع – أياً كان مستواه – هو صراع الإرادات المبنى على اعتبارات موضوعية والمحكوم بإطار من العقلانية.
ورغم أن الصراع العربي الإسرائيلي قد دخل دائرة عملية السلام منذ ربع قرن أي عقب حرب يونيه 1967.. بصدور قرار مجلس الأمن يمثل محور عملية السلام حتى الآن.. والذي نص على عدم شرعية ضم أراضى الغير بالقوة المسلحة ، واعترف للأطراف بحق العيش داخل حدود آمنة مع الانسحاب من الأراضي التي احتلت خلال الحرب 1967... غير أن الحل المقبول لم يتحقق فى ظل مجتمع عالمي يستخدم وسائل لحل الصراع تفتقر إلى القوة والقدرة على فرض إرادته عل الأطراف المتصارعة.
من جانب آخر فأن الخلل الأساسي الذي كان قائماً بين طرفي الصراع.. ناجم عن وجود أحدهما في موقع الهزيمة والآخر في موقع النصر.. الأمر الذي لا يستقيم مع تحقيق العدالة ونشر السلام.
هنا برزت الرؤية المصرية الجديدة التي أخذت شكل استشراقة عميقة للمستقبل وبلورت رؤية جديدة لاستراتيجية متطورة تميزت بصفتين هامتين هما الشمول والمرونة.. سواء فى تحديد الأهداف الوسيطة أو فى اختيار أدوات الحركة وكانت حرب أكتوبر 1973 هى الأداة الأولى للحركة.. فهى أول الجهود العملية المنظمة والقائمة على الأسلوب العلمى فى إدارة الصراع.. ودفعه على الدائرة الممكنة للتسوية السلمية التى تمنع تفاقم الوضع المستقبلى وتؤدى إلى التعايش.. بل والتعاون بين دول الجوار.
لقد دخل الصراع العربى الإسرائيلي بما فرضه حرب أكتوبر المجيدة.. من مفاهيم ناجمة عن اقتدار مصرى واضح.. دائرة الحركة السياسية الإيجابية على المستوى الدولى بسرعة عالية اختلفت تماماً عن الأساليب الجامدة التى سبق أن ظلت تدفع بالقضايا العربية المصيرية فى كهوف النسيان- وساعد على الاختراق السياسى حرص الولايات المتحدة على امن إسرائيل واقتناعها بأن أحلام إسرائيل قد بددتها الحقائق العربية الجديدة.. وأن أوهامها قد عصف بها الإعصار المصرى وهو يقتحم قناة السويس.. فتحركت بنشاط كبير لفتح حوار فورى مع مصر من خلال رحلات هنرى كيسنجر وزير خارجيتها فى ذلك الوقت.. والتى بدأت أولاها بعد عشرة أيام فقط من وقف القتال رغم أن العلاقات المصرية الأمريكية كانت مقطوعة.
و